العلّامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله
إنّنا في هذا الشهر المبارك العظيم ـ شهر رمضان ـ نتعرَّف إلى ما علينا من حقوقٍ، وما لنا من حقوق، وأيّ حقِّ أعظم من حقِّ الله تعالى علينا؟!
إنّ رسالة الحياة في الحقّ، هي رسالة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع): «رسالة الحقوق»، ففيها كلُّ الحقوق: من حقِّ الله تعالى عليك، إلى حقّ أنفُسنا علينا، إلى حقّ أقلّ إنسانٍ معنا.
إنّ الإطلالة في رحاب شهر الله الأعظم على هذه الرسالة الحقوقية، ممّا يُرشدنا ويُهذّبنا ويعلّمنا، ويزكّي أنفُسنا، ويسمو بروحنا لنتكامل في المجتمع من خلال هذه الحقوق التي فرضها الله علينا وأعطانا إيّاها، لأنّ هذا الشهر المبارك هو شهر الحقّ والتغيير والثورة على الفكر الباطل، والنفس الأمّارة بالسوء، والمشاعر الخبيثة، والأخلاق الفاسدة، والمعاملات الباطلة، والمواقف الخاطئة، حتى نخرج من شهر الله ـ ورسالة حقوق وليِّ الله ـ ونحن في سلامةٍ من عقولنا وقلوبنا وحياتنا وأعمارنا، وفي رِضى من ربِّنا.
فالأهميّة تكمن في كيفية حصولنا على محبّة الله، ورضاه، وكيف نستطيع قطع هذه الحياة بحسب الشوط الذي جُعِلَ لنا من فسحة العمر المُقدَّر، حتى إذا وصلنا إلى الله، نصلُ بقلبٍ سليمٍ مُطمئنّ، وروحية إيمانية تقوائية، لأنّ الله تعالى لا يضيّع عمل عامل منكم من ذكرٍ أو أنثى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر/ 18-19). وهم أصحاب الحقّ والمسؤولية والحركية والعمل الذي يراه الله ورسولُهُ ويحمدُهُ الناس، فالخلق كلّهم عيال الله، وأحبّهم إليه، أنفعهم لعياله.
إنّ الإنسان النفّاع الخيِّر المصلح، الذي اتّقى وآمن بالله ورسوله، على كتفيه تبعات المسؤولية، وهو المنطلق في رحاب الله مغيِّراً وداعيةً وقدوة.
حقّ وواجب
يشعر الإنسان في مسيرة حياته الإنسانية كلّها بأنّه محاطٍ بشبكةٍ من الحقوق، فكلُّ شيءٍ في داخل جسده ومواقع أفعاله، وفي ما يحيط به في مجتمعه ممّن له علاقة به، له حقٌّ عليه لابدّ أن يقوم به، كما أنّه يملك حقوقاً على الناس من حوله. فالإنسان في الحياة له حقّ وعليه واجب، ولا يدّعي إنسانٌ امتلاكه للحقّ دون أن يكون للآخرين حقٌّ عليه. فالنبيُّ يملك حقّ الطاعة على الناس، ولهم حقٌّ أن يُعلِّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم، ويتلو عليهم آيات الله، فالمسؤول فردٌ في دائرة المسؤوليات العامّة، فله حقٌّ وعليه واجب.
إنّ الفكرة التي يجب أن تعيش في وجداننا الإنساني الإسلامي، أنّه ليس لأحدٍ أن يتصوّر نفسه مُحقّاً مطلقاً مهما بلغت درجته، ومهما كان كبيراً. فلقد ربط الله تعالى الواقع الإنساني كلّ.. واقع الإنسان في نفسه، وواقعه مع الإنسان الآخر، بشبكةٍ من الحقوق، حيث يتحرّك الإنسان في علاقته مع أخيه الإنسان وفق دراسة ما الحقّ المفروض له؟ وما الحقّ الواجب عليه؟ وهو ما يمنع الإنسان من أن يعيش الأنانية التي تأتي من تصوّره أنّ حقّه على الآخرين مقدّسٌ وواجبٌ وليس للآخرين حقّ عليه. ولهذا، بيّن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) من خلال رسالة حقوقه، حقَّ كلّ فردٍ في الحياة، وركّز الحقوق العامّة والخاصّة في كلّ ما أراده الله تعالى وفرضه.
وانطلاقاً من ملخّص الإمام زين العابدين (ع) للحقوق، يقول ممّا رُوِي عنه في كتاب (تُحف العقول): «اعلَمْ ـ رَحِمَك اللهُ ـ أنّ للهِ عليك حقوقاً مُحيطةً بك في كلِّ حركة تَحرّكتَها، أو سَكَنَة سَكَنتَها، أو مَنزِلة نَزَلْتَها، أو جَارِحة قَلَّبْتَها ـ والجوارحُ الأعضاء ـ وآلةٍ تَصرَّفْتَ بها، بعضُها أكبرُ من بعضِ»، فحين خلقك الله، خلقك مسؤولاً أن تؤدِّي هذه الحقوق، باعتبار أنّك عبدٌ لله وعليك أن تنفّذها وتقوم بها، في ما تتحرّك به حين الحركة، وفي ما تكفُّ عن الحركة به حينما تسكن وتهدأ، وفي كلّ منزلةٍ تنزل بها في هذا الموقع أو غيره، وفي كلّ تقليد لجوارحك وأعضائك، وفي ما تتصرّف به من الآلات التي تتوصّل بها إلى مقاصدك، حيث تشعر بعظيم ما فرضه الله عليك من حقٍّ في كلّ جوانب حياتك، ومفاصل هذه الحياة، وتشعر بأنّك محاصرٌ بالمسؤولية الحقوقية في الكلمة والحركة والسَّكَنة والموقف، بحيث تشعر من خلال الأشياء التي تتصرّف فيها في كلّ أعضائك، بأنّ هناك حقّاً يجب على الإنسان أن يعرفه وينطلق من خلاله.
حقُّ النفس
«وأكبرُ حقوقِ اللهِ عليك، ما أوجبَهُ لنفسِهِ تبارك وتعالى من حقِّه الذي هو أصلُ الحقوقِ، ومنه تفرّع، ثمّ أوجبَهُ عليك لنفسِك من قرنِك إلى قدمِك، على اختلافِ جوارحِك». فهذا الجسد الإنساني الذي يمثِّلُ وجودك وإنسانيتك، قد جعل الله عليك حقّاً فيه لكلّ عضوٍ من أعضائك، والتي تمثِّل العناصر الحيّة في إدارتك لحياتك، حيث إنّك مسؤولٌ أمامها، كما لو كانت هذه الأعضاء شخصاً حيّاً يطالبك بحقوقه عليك.
«فَجعلَ لِبَصرِك عليك حقّاً ـ والبصرُ سوف يطالبك بهذا الحقّ يوم الحقّ ــ ولِسَمعِك عليك حقّاً، ولِلسانِك عليك حقّاً، ولِيدِك عليك حقّاً، ولِرِجلِك عليك حقّاً، ولِبَطنِك عليك حقّاً، ولِفَرجِك عليك حقّاً، فهذِهِ الجوارحُ السَّبعُ ـ يُعبّر عادة عن الأعضاء الإنسانية بالجوارح، وهو ما ورد في دعاء كميل: و«قَوِّ على خِدمَتِك جَوارِحي، واشدُدْ على العزيمةِ جَوانِحي»، أي قوِّ على خدمتك أعضائي الإنسانية التي وهبتني إيّاها يا ربّ ـ التي بها تكونُ الأفعالُ». فالإنسان يتحرّك من خلال أفعاله؛ إنّه يُبصِرَ بالأشياء، ويسمع بها، ويتحدّث ويتكلّم من خلالها، ويستودع ما يحتاجه من غذاءٍ وما يفوته في حياته.
«ثمّ جعلَ عزّوجلّ لأفعالِك عليك حقوقاً»، فلقد كلّفنا الله بأفعالٍ وأعمالٍ لها حقٌّ علينا في كيفية إدارتها، فأنت كإنسانٍ مسؤول ومطالب به، «فَجعلَ لِصلاتِك عليك حقّاً» ـ كيف تكونُ صلاتك؟! «ولِصَومِك عليك حقّاً» كيف يكونُ صومك؟! «ولِصَدَقتِك عليك حقّاً» حين تتصدَّقُ، «ولِهَديِك»، والهَدي ما يقدّم في الحجِّ، «عليك حقّاً، ولأفعالِك عليك حقّاً».
حقّ الإمام والرعية والرَّحِم
«ثمّ تخرجُ الحقوقُ منك إلى غيرِك من ذوي الحقوقِ الواجبةِ عليك»، فيأتي حقُّ الناس الذين تتّصلُ حياتك بحياتهم، ومسؤوليتك بمسؤوليتهم. «وأوجَبُها عليك حقوقُ أئمّتِك» الأئمّة الذين فرض الله عليك طاعتهم، وفي خطّ الأئمّة، العلماء الذين يتميّزون بالاجتهاد والعدالة، ممّا فرض الله عليك إطاعتهم في خطِّ طاعة الله.
«ثمّ حقوقُ رَعيّتِك»، إذا كنت مسؤولاً عن الناس في موقعٍ عامّ أو خاصّ، وسواء في الموقع العالي من الدرجة الكبرى في خطّ المسؤولية أو أدناه.
«ثمّ حقوقُ رَحِمِك». فإرضاؤك لهم حقٌّ عليك وواجبٌ يتعلّق بصلة الأرحام.
حقوق متشعّبة
«فَهذِهِ حقوقٌ يَتشعّبُ منها حقوقٌ: فَحقوقُ أئمّتِك ثلاثةٌ: أوجَبُها عليك حقُّ سَائسِك بالسُّلطانِ ـ أي الراعي لك من خلال السلطة ـ ثمّ سَائسِك بالعِلمِ ـ السائس الذي يعلّمك، لأنّ الجاهل رَعِيّةُ العَالِمِ، وليس رَعِيّة السلطة، فهم رَعِيّة العِلم يعيشون تحت المسؤولية العلمية. وحقُّ رَعِيّتك بالمُلكِ»، من خلال التعاقد بين الأزواج وما ملكت الأيمان لِمَا كان في السابق والآن، كالعمّال الذين يملك المسؤول عملهم.
«وحقوقُ رَحِمِك كثيرةٌ مُتّصلةٌ بقَدرِ اتّصالِ الرَّحِمِ في القرابةِ، فأوجَبُها عليك حقُّ أُمِّك، ثمّ حقُّ أبيك، ثمّ حقُّ وَلَدِك، ثمّ حقُّ أخيك ثمّ الأقربُ فالأقربُ» من العمّ والخال، «والأوّلُ فالأوّلُ، ثمّ حقُّ مَولاك المُنعِمِ عليك ـ من أنعُم عليك بنِعَمه ـ ثمّ حقُّ مَولاك الجَاريةُ نِعمتُك عليه، ثمّ حقُّ ذي المعروفِ لديك، ثمّ حقُّ مُؤذِّنُك بالصلاةِ ـ وهو يملك حقّاً على كلّ المصلّين والمؤمنين ـ ثمّ حقُّ إمامِك في صلاتِك، ثمّ حقُّ جَليسِك ـ مَن تجالسه وتحادثه وتحاوره ـ ثمّ حقُّ جارِك، ثمّ حقُّ صاحِبك ـ الذي تصاحبه في ذهابك وإيابك ـ ثمّ حقُّ شريكِك ـ الذي تشاركه في المعاملات التجارية والمالية ـ ثمّ حقُّ مالِك ـ الذي إن ملكته صار إنفاقه واجباً في ما أمر الله من موارد الإنفاق ـ ثمّ حقُّ غَرِيمِك الذي تُطالِبُهُ ـ وله دينٌ عليك ـ ثمّ حقُّ خَصمِك المُدَّعي عليك، ثمّ حقُّ خَصمِك الذي تَدّعِي عليه»، فلا تمارس كلّ سلطتك ومزاجك في ما لك من حقّ.
«ثمّ حقُّ مُستَشيرِك ـ الذي يطلبُ منك المشورة في الرأي الذي يُمكنك أن تبدي رأيك فيه ـ ثمّ حقُّ المُشيرِ عليك ـ وهو الذي يرشدُك ويشير عليك بالرأي ـ ثمّ حقُّ مُستَنصحِك ـ وهو الشخص الذي يطلب منك النصيحة في الله ـ ثمّ حقُّ الناصحِ لك، ثمّ حقُّ مَن هو أكبرُ منك ـ وهو حقّ إنساني اجتماعي، حقُّ الكبير على الصغير ـ ثمّ حقُّ مَن هو أصغرُ منك - وهو ما يعني حقُّ الصغير على الكبير ـ ثمّ حقُّ سَائلِك ـ الذي يوجِّه السؤال إليك ليتعرّف الجواب منك ـ ثمّ حقُّ مَن سألتَهُ، ثمّ حقُّ مَن جَرى لك على يَدَيهِ مَساءَةٌ بقول أو فِعل أو مَسَرَّة بذلك بقول أو فِعل عن تَعَمُّد منه أو غيرِ تَعَمُّد منه، ثمّ حقُّ أهلِ مِلّتِك حقّ المسلمين عليك ـ ثمّ حقُّ أهلِ الذمّةِ ـ من غير المسلمين عليك، والذين بينك وبينهم عهدٌ وعقدٌ ـ ثمّ الحقوقُ الجَارِيَةُ بقدرِ عِلل الأحوالِ وتَصرُّفِ الأسباب».
«فطُوبى لِمَن أعانَهُ اللهُ على قضاءِ ما أوجبَ عليه من حقوقِهِ ووَفّقهُ وسَدّدَهُ»، لأنّه يكون قد عاش الحياة وقد أدَّى لكلِّ ذي حقّ حقّه، وقدم على الله سبحانه وتعالى مطيعاً له، ملتزماً بأوامره ونواهيه.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق